الخميس، 25 مايو 2017

حافلة يستقلها الناس بغرض النوم



اتحدث عن حافلة حقيقية عجلاتها من المطاط تسير على البيض ويستقلها الناس بغرض النوم. ليس العيب في نوافذها المهشمة أو أنصاف أبوابها الثلاثة... فهي حافلة شبه مجانية تترك مقاعدها بصمات على مؤخراتنا حبا فينا، وهي سريعة كالسلحفاة. تنطلق من طنجة ليلا لتصل الحسيمة صباحا... تشرفت بركوبها ذات يوم  لأدرك مدى تعاسة العجوز الذي يسير على عكازه ببطئ شديد. وأذكر أننا وصلنا مدينة تطوان بعد ساعة ونصف من الانطلاق وقد انتظرنا قبل ذلك في محطة طنجة مدة تزيد عن النصف ساعة.
يومها خرجت من منزلي واتجهت الى محطة طنجة الطرقية، نزلت الى الرصيف والعقارب تشير الى وقت متأخر من الليل، كانت شدة البرودة تدلنا على نصف شهر دجنبر الأخير. شاهدت أطفالا صغار يدخنون السجائر في العراء، لمحت رفقتهم طفلة لايتجاوز عمرها سبع سنوات، حافية القدمين ملابسها رقيقة ومبتلة وكانت ترتجف... اقتربت منها وألبستها سترتي فذابت فيها.. انها سكينة، فرت من بيت أهلها ولاترغب في العودة، أوقفتها عن سرد قصة زوج أمها التي تحفظها عن ظهر قلب.. بعدما اطلق السائق منبه الحافلة مخبرا بالتحرك... ركضتْ خلف رفاقها ليختبئوا في صندوق الأمتعة ويغطوا في النوم. عدت الى مقعدي، أمامي مباشرة يجلس رجل رفقة صديقه.. الاثنان بين اليقظة والنوم، لكنهما يعزفان سمفونية واحدة متقطعة تدعو للتأمل. مر بعض الوقت، استسلمت لنداء الطبيعة، استطعت أن أنام رغم صوت محرك الحافلة المزعج.

بعد مدة استفقت على صوت صراخ مختلط ب أصوات غريبة، رفعت رأسي ولم يكن أحد في الداخل.. نظرت من النافذة لأجدهم مجتمعين حول رجل وثلة من الصبية الصغار، تذكرت سكينة ورفاقها في صندوق الامتعة، ظننت أنهم سرقوا شيئا وتم ضبطهم....
خرجت مسرعا وانضممت الى كومة البشر تلك.. ومن بين كل الاصوات المنبعثة من أفواههم لم استطع فهم مايجري لذا سألت شخصا كان بقربي فأخبرني أنه من بين الركاب كان هناك شرطي متقاعد ،سمع بعض القهقات المتقطعة، وبعدما تأكد انها تصدر من صندوق الامتعة طلب من السائق التوقف. نزل وفتح باب الصندوق ليجد بعض الصبية الصغار كان أحدهم يفعل شيئا مع الفتاة ويقهقان، اما الاخرين فكانوا نائمين. لم استطع استيعاب الموقف كيف لأطفال أكبرهم لايتجاوز سنه 10 سنوات أن يفعلوا شيئا كهذا الذي يدعيه الشرطي ذو الشوارب الكبيرة لابد وأنه أثناء فترة خدمته قد عاين الكثير من الاحداث الغريبة والان  وبعد تقاعده أصبح يتوهم فقط. امسك الشرطي بالفتى احمد وانهال عليه بالصفعات والسب كأنه ينتقم من ذئب بشري اغتصب زوجته الشريفة الطاهرة، حدث ذلك بسرعة هائلة  فلم يتمكن أحد من انقاذه من كل تلك الضربات سوى سكينة التي قفزت على الشرطي وركلته بقوة على ركبته وفمها يمتلأ بكل الشتائم التي تعلمتها أثناء اقامتها في الشارع الحنون، سحبت أحمد من بين يديه وأخذته بعيدا خلف الحافلة. نظرة الشرطي كانت توحي بالشر والضغينة تجاه الفتاة لكنه لم يقوى على الذهاب اليها وضربها كما فعل مع أحمد، فالناس يطوقونه من كل جانب محاولين تهدئته واطفاء غضبه.

لمحتُ سكينة تدخن بعنف وأحمد جالس بقربها، تسللت ببطئ متجها نحوهما، الاسئلة تدور برأسي وتحتاج الى جواب مالذي حصل هناك؟ لماذا غضب الشرطي المتقاعد؟ مالذي فعله الطفلان حتى يثيرا غضبه؟... جلست بالقرب من أحمد اردت تمرير يدي على شعره محاولا اعطاءه الاحساس بالامان والحب، لكنه ازاح رأسه الى الجانب الاخر ونظر الى سكينة، فقالت له: لابأس اني أعرفه..
 حاولت فهم ماجرى لكنهما ظلا صامتين ولم ينطقا ولو بكلمة واحدة. تفهمت صمتهما وحاولت تغيير الحديث بالسؤال عن رفاقهم فأخبرني أحمد أنهم هربوا عندما شاهدوا الشرطي يضربه ولن يعودوا الى هنا ابدا الليلة. سألتهم ان كانوا يودان اكمال الطريق الى الحسيمة أم يودان العودة الى طنجة فأجابتني سكينة بما يفيد أنها تود الوصول الى الحسيمة ومن هناك تتجه نحو وجدة، أما أحمد فقال أنه سينتطر باقي رفاقه.

لم يكن السائق ليسمح لها بالبقاء في صندوق الأمتعة لذا دفعت ثمن تذكرة لها، صعدنا الى مقاعدنا وانطلقنا من جديد لينصب تفكيري على الحافلة البائسة، صوتها يكاد يفقدني عقلي بالاضافة الى بطئها الشديد اشعر بالغضب كلما نظرت من النافذة ورأيت السيارات باختلاف أحجامها تتجاوزنا كأننا صخرة متوقفة على جانب الطريق.

مر الوقت، وصلنا الحسيمة، هنا محطة بوكيدان، أيقظتها بصعوبة .. هيا يا سكينة سنفطر وتخبرينني أين تسكنين. نسيت سكينة اتفاقنا فعاجلتني بالصراخ وكأني أحاول خطفها ليشاهدنا رجل يرتدي زي الامن كان في طريقه الى سيارته.. يبدو أنه رجل أمن ، قال بصيغة الأمر وبصوت حازم مرتفع "خليها عليك" قلت أني اريد ايصالها الى أهلها فقال مجددا "خليها تمشي بحالها" فتركتها... تركتها لأنها كانت تصرخ، تركتها بعدما ودعتها وودعت تلك الحافلة

Popular Posts

كان هنا :